فصل: (مسألة: أنواع المزكين)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: نقل الميت]

قال الشيخ أبو نصر: ليس في نقل الميت من بلد إلى بلد نص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والذي يشبه عندي: أنه يكره، وروي ذلك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وسئل الزهري عن ذلك؟ فقال: (قد حمل سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه وسعيد بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من العقيق إلى المدينة).
ودليلنا: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتعجيل دفن الميت». وفي ذلك تأخير لدفنه، وأما نقل سعد وسعيد: فالعقيق قرب المدينة، فجرى مجرى البلد الواحد إذا نقل من مقبرة فيه إلى مقبرة.

.[مسألة: الانصراف بعد الدفن]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا فرغ من الدفن... فقد أكمل، وينصرف من شاء).
قال أصحابنا: وفي الانصراف أربع مسائل:
إحداهن: إذا صلى، وانصرف... فله ثواب.
الثانية: إذا صلى عليه، وانتظره حتى يوسد في القبر، وانصرف... فهذا أفضل من الأول.
الثالثة: أن يقف حتى يفرغ من الدفن، وينصرف، فهذا أفضل من الأولين؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلى على جنازة... فله قيراط، ومن شيعها حتى قضى دفنها فله قيراطان. أحدهما: أو قال: أصغرهما - مثل جبل أحد.
قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:فذكرت ذلك لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، فأرسل إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فسألها عن ذلك، فقالت: صدق أبو هريرة، فقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لقد فرطنا في قراريط كثيرة».
الرابعة: أن يقف بعد الدفن، ويدعو للميت، وهذا أفضل من الأولين.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم" [1/245] وكان بعض من مضى عندنا من أهل العلم يأمر أهل الميت إذا فرغوا من الدفن: أن يقفوا عند قبره بمقدار ما ينحر جزور.
وقال: (ذلك حسن، إلا أني لست أراهم يفعلون ذلك الآن عندنا). فيستحب ذلك؛ لما روى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دفن ميتًا... وقف عند قبره، وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل». وبالله التوفيق.

.[باب التعزية والبكاء على الميت]

يستحب أن يعزى أهل الميت وأقاربه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى مصابًا... فله مثل أجره».
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى ثكلى... كسي بردًا في الجنة».
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ووقت التعزية من حين يموت الميت إلى أن يدفن، وبعد الدفن أحب إلي، إلا أن يضعف الولي عن احتماله، فيعزى قبل الدفن).
وقال أبو حنيفة، والثوري: (لا يعزى بعد الدفن، بل قبله).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى مصابًا... فله مثل أجره». ولم يفرق.
ولأن بعد الدفن أولى بالتعزية؛ لأنه حين مفارقته، وتجديد مصيبته.
ولأن الميت ما لم يدفن، فهو بين أظهر أهله، وإنما يأنسون منه، ويستوحشون بفرقته إذا دفن، فكان أولى الأحوال بالتعزية.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويعزى الكبير والصغير، والرجل والمرأة إلا أن تكون شابة، فلا أحب أن يعزيها إلا ذو رحم محرم لها). فأما الأجنبي: فلا يعزيها؛ مخافة الافتتان بها، ويخص بالتعزية صبيانهم وضعفاؤهم عن احتمال المصيبة، فإن الثواب في تعزيتهم أكثر.
وأما لفظ التعزية: فقال الشافعي: فإن كان يعزي مسلمًا بمسلم، فأحب أن يعزي بتعزية الخضر أهل بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك: أنه لما مات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجاءت التعزية... سمعوا صوتًا، ولا يرون أحدًا، يقول: السلام عليكم، أهل البيت، ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، ودركًا من كل فائت، وخلفًا من كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب.
ويستحب أن يقول بعد ذلك: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك.
وإن عزى مسلمًا بكافر... قال: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وخلفه عليك، يعني: الله خليفته عليك.
وإن عزى كافرًا بكافر... قال: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك، حتى تكثر الجزية.

.[مسألة: كراهة الجلوس للتعزية]

ويكره الجلوس للتعزية، وهو أن يجتمع أهل الميت في بيت؛ ليقصدهم من أراد العزاء؛ لأن ذلك محدث وبدعة، بل يتوجه كل واحد منهم لحاجته، فيعزى الرجل في مصلاه، وفي سوقه وضيعته.

.[مسألة: حرمة النياحة]

ويحرم النوح على الميت، وشق الجيوب، ونشر الشعور، وخمش الوجوه؛ لما روت «أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: قالت: نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النوح، فما وفت منا واحدة، إلا أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -».
وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن النائحة والمستمعة».
وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية».
وروي «عن امرأة بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: أخذ علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن لا نخمش وجهًا، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيبًا، ولا ننشر شعرًا».
ولأن ذلك شبيه بالتظلم والاستغاثة، وما فعله الله تعالى حق وعدل.
ولأن ذلك يجدد الحزن، ويمنع الصبر، فحرم.
وأما البكاء من غير ندب، ولا نوح: فيجوز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ابنه إبراهيم في حجره، وهو ينزع، فبكى عليه، وقال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، إنا بك يا إبراهيم لمحزونون" ثم فاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟! فقال: إنها رحمة يضعها الله في قلب من يشاء، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء».
وروي أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس قد نهيت يا رسول الله عن البكاء؟! فقال: "لا، إنما نهيت عن النوح».
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكى على عثمان بن مظعون، حتى سالت دموعه، فروي: أنه قال في بكائه عليه: "هاء هاء هاء" ثلاث مرات».
فإن قيل: هذا صوت، وأنتم تكرهون الصوت؟! فالجواب: أنه يحتمل أنه كان مغلوبًا عليه، وما كان مغلوبًا عليه الإنسان لا يؤاخذ به. ويحتمل أن يكون الصوت المكروه ما كان بنوح وتعديد، وهذا ليس بشيء منه.
إذا ثبت هذا: فالبكاء مباح إلى أن يموت الميت، فإذا مات: فيستحب أن لا يبكي.
قال الشيخ أبو حامد: وإن كان لا يحرم؛ لما روى جابر بن عتيك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى عبد الله بن ثابت يعوده، فوجده قد غلب عليه، فصاح به، فلم يجبه، فقال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، ثم قال: "قد غلبنا عليك يا أبا الربيع "، فصاحت النسوة بالبكاء، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعهن يبكين، فإذا وجبت... فلا تبكين باكية". قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: إذا مات» ولأن البكاء بعد الموت يجدد الحزن، ويمنع الصبر.
فإن قيل: فقد روى عمر، وابن عمر، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه».
قال أصحابنا: فعن ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: سألت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن هذا الخبر؟ فقالت: يرحم الله عمر، والله، ما حدث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الحديث هكذا، وإنما قال: إن الميت ليزاد في عذابه ببكاء أهله عليه. حسبكم القرآن»، قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
وروي عنها: أنها قالت: «مات يهودي، فكان أهله يبكون، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الميت ليعذب وأهله يبكون عليه».
والجواب الثاني: قال المزني: تأويله: أن يكون الميت أوصى بالبكاء عليه، وهكذا أهل الجاهلية كانوا يوصون بالبكاء عليهم، قال طرفة بن العبد:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ** وشقي علي الجيب يا ابنة معبد والجواب الثالث: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»، أي: بما يبكي عليه أهله؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يبكون على ميتهم، ويعددون في بكائهم ما كان يصنع من الظلم والقتل، ويفتخرون به.

.[مسألة: زيارة القبور]

ويستحب للرجال زيارة القبور؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زوروا القبور، فإنها تذكركم الموت، ولا تقولوا هجرًا».
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زار قبر أمه في ألف مقنع».
ويستحب أن يسلم عليهم، ويدعو لهم؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبور بالمدينة، فأقبل عليها بوجهه، وقال: السلام عليكم، يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحن بالأثر».
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى البقيع، فقال:السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله عن قريب بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد».
وروي: أنه قال: «اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم».
وأما النساء: فلا يجوز لهن زيارة القبور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله زوارات القبور».
ولا يكره المشي في المقبرة بنعلين، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكره).
دليلنا: ما روي في حديث المساءلة: «وإنه ليسمع خفق نعالهم».
ويكره أن يطأ القبر، أو يجلس عليه، أو يتكئ عليه.
وقال مالك: (لا يكره ذلك إلا أن يكون لبول أو غائط).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لأن يجلس أحدكم على نار، فتحرق ثوبه، ويصل إلى بدنه، أحب إلي من أن يجلس على قبر».
فإن لم يكن له طريق إلى قبر من يزوره إلا أن يمشي على قبر... جاز له المشي عليه؛ لأنه موضع عذر.
ويكره المبيت في المقبرة؛ لما فيها من الوحشة.
ويكره أن يبني على القبر مسجدًا، لما روى أبو مرثد الغنوي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«لا تتخذوا قبري وثنًا، فإنما هلك بنو إسرائيل؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن تبنى، وأن توطأ».
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدًا، مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس).

.[مسألة: إطعام أصحاب المصيبة]

ويستحب لقرابة الميت وجيرانه أن يعملوا لأهل الميت طعامًا يشبعهم يومهم وليلتهم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاءه نعي جعفر بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -... قال: اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم» ولأن ذلك من البر والمعروف.
وقال ابن الصباغ: وأما إصلاح أهل الميت طعامًا، وجمع الناس عليه: فلم ينقل فيه شيء، وهو بدعة، غير مستحب. وبالله التوفيق.

.[كتاب الزكاة]

والأصل في وجوب الزكاة: قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
فأمر بالإيتاء، وهو الدفع.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5].
وقَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].
وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] إلى قوله: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35].
فتواعدهم على الكنز، والكنز: كل مال لم تؤد زكاته.
وروي ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ويدل على وجوبها من السنة: ما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له مال، فلم يؤد زكاته.. مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع يطلبه وهو يفر منه حتى يطوقه، وتلا قَوْله تَعَالَى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]» [آل عمران: 180].
وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت».
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم».
ووجوب الزكاة إجماع بين المسلمين، لا خلاف بينهم في ذلك.
إذا ثبت هذا: فالزكاة - في اللغة -: هي النماء والزيادة، يقال: زكت الثمرة: إذا كثرت، وزكت النفقة: إذا بورك فيها، ويسمى ما يدفع إلى المساكين: زكاة؛ لأنها تثمن المال.
واختلف أصحابنا في الآيات التي ذكرناها، وهي قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وفيما يشبهها من الأخبار.
فمنهم من قال: إنها مجملة، وهو قول أبي إسحاق؛ لأن المجمل: ما لا يعلم المراد منه إلا ببيان، وهذه الآيات والأخبار بهذه الصفة.
فعلى هذا: لا يحتج بها إلا على وجوب الزكاة، فأما على القدر المخرج: فلا يحتج بها.
ومن أصحابنا من قال: هي عامة تدل بظاهرها؛ لأن الصلاة هي الدعاء، والزكاة النماء، فيصح أن يحتج بها على وجوب فعل ما يسمى صلاة، وعلى إخراج ما يقع عليه الاسم في الزكاة، ولا يجب ما زاد على ذلك إلا بدليل.

.[مسألة: وجوب الزكاة في الملك الحقيقي]

ولا تجب الزكاة في مال المكاتب.
وقال أبو ثور: (تجب الزكاة في ماله).
وقال أبو حنيفة: (يجب العشر في أرضه).
دليلنا: ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في مال المكاتب».
ولأن هذا يجب في المال على طريق المواساة، فلم يجب في مال المكاتب، كنفقة الأقارب، فإن أدى المكاتب ما عليه من نجوم الكتابة.. عتق، واستأنف الحول على ما بقي في يده، وإن عجز.. رد ما بيده إلى سيده، واستأنف به السيد الحول، وكان كـ: مال استفاد ملكه في هذه الحالة.
وإن ملك السيد عبده، أو أم ولده مالًا:
فإن قلنا بقوله القديم، وأنه يملك.. لم يجب على السيد فيه زكاة؛ لأنه خارج عن ملكه، ولا يجب على العبد فيه زكاة؛ لأن ملكه أضعف من ملك المكاتب؛ لأن للسيد أن يسترجعه متى شاء.
وإن قلنا بقوله الجديد، وأن العبد لا يملك إذا ملك.. فإن حول السيد لا ينقطع فيه، ويجب على السيد زكاته.
وإن كان نصفه حرًا، ونصفه مملوكًا، وملك بنصفه الحر نصابًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو المشهور -: أنه لا يجب عليه فيه زكاة؛ لنقصانه بالرق.
والثاني: يجب عليه فيه الزكاة؛ لأنه يملكه ملكًا تامًا.

.[مسألة: لا يخاطب الكافر بالزكاة]

وأما الكافر الأصلي: فلا يصح إخراج الزكاة منه، وهل هو مخاطب بوجوبها، ويكون آثمًا بها؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وأما المرتد: فإن ارتد بعد وجوب الزكاة عليه.. لم يسقط عنه بردته ما قد وجب عليه، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (يسقط عنه).
دليلنا: أنه قد ثبت وجوبه عليه، فلم يسقط بردته، كالدين.
وإن ارتد في أثناء الحول.. فهل ينقطع الحول؟ يبنى على حكم ملكه، وفيه طريقان:
قال أبو العباس: في ملكه قولان:
أحدهما: أن ملكه لا يزول بالردة، وإنما يزول بالموت.
فعلى هذا: لا ينقطع حوله، وتجب عليه الزكاة عند حلول الحول.
والثاني: أن ملكه موقوف.
فإن رجع إلى الإسلام.. بنينا أن ملكه لم يزل.
فعلى هذا: تجب عليه الزكاة.
وإن لم يعد.. بنينا أن ملكه زال بنفس الردة.
فعلى هذا: لا تجب الزكاة في ماله.
وقال أبو إسحاق: في ملكه ثلاثة أقوال:
قولان: هما الأولان.
والثالث: أن ملكه زال عن ماله بنفس الردة، وبه قال أبو حنيفة.
فعلى هذا: لا تجب الزكاة، واختار صاحب "المهذب" طريقة أبي إسحاق.

.[مسألة: الزكاة حق في المال]

وتجب الزكاة في مال الصبي، والمعتوه والمجنون، ويجب على الولي إخراجها من ماله، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وبه قال مالك، وابن أبي ليلي.
وقال ابن مسعود، والثوري، والأوزاعي: (تجب، ولكن لا تخرج حتى يبلغ الصبي، ويفيق المعتوه والمجنون، فيؤديها).
وقال ابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا تجب الزكاة في مالهم، وإنما تجب زكاة الفطر والعشر في مالهم). وروي ذلك عن ابن عباس.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر، وفي الغنم إذا بلغت أربعين شاة شاة». ولم يفرق.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة».
ولأنه حر مسلم، فجاز أن تجب الزكاة في ماله، كالبالغ.

.[مسألة: أنواع المزكين]

إذا تقرر ما ذكرناه: فالناس في الزكاة على ثلاثة أضرب:
أحدهاضرب يعتقد وجوبها، ويؤديها في الوقت الذي تحل عليه، فهذا داخل تحت المدح في قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4].
وفي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] وما أشبهها من الآيات.
والضرب الثاني: يعتقد وجوبها، ولا يؤديها، وهم فساق المسلمين، فإن كانوا في قبضة الإمام.. ضيق عليهم، وأخذها منهم.
وإن امتنعوا بمنعة.. قاتلهم الإمام كما قاتل أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مانعيها.
وإن أخفوا أموالهم.. حبسهم الإمام، فإذا ظهرت.. ففي القدر الذي يؤخذ منهم قولان:
أحدهما قال في القديم: (يأخذ منهم الزكاة، وشطر مالهم، عقوبة لهم)؛ لما روى بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جدهأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ومن منعها.. فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد فيها شيء».
والثاني: قال في الجديد: (تؤخذ منه الزكاة لا غير)؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة»، ولأنها عبادة، فلا يجب بالامتناع منها أخذ شطر ماله، كسائر العبادات، والخبر منسوخ؛ لأن العقوبات كانت في أول الإسلام في الأموال.
والضرب الثالث: من لا يقر بوجوب الزكاة، فإن كان قريب عهد بالإسلام، أو ناشئًا في بادية لا يعلم وجوب الزكاة.. فإنه يعرف وجوب الزكاة.
وإن كان ممن نشأ مع المسلمين.. فإنه يحكم بكفره؛ لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله تعالى من طريق توجب العلم الضروري؛ لكونها معلومة من نص الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الخاصة والعامة، فمن جحد وجوبها بعد ذلك.. حكم بكفره.
فإن قيل: أفليس الذين منعوا الزكاة في زمان أبي بكر زعموا أنها غير واجبة عليهم، ولم يكفروا؟
قلنا: إنما لم يكفروا؛ لأن وجوبها لم يكن مستقرًا في ذلك الوقت؛ لأنهم اعتقدوا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مخصوصًا بذلك، ولهذا قال عمر لأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كيف نقاتلهم؟! وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوا، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (الصلاة من حقها، والزكاة من حقها، والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، والله لو منعوني عناقًا - وروي: عقالًا - مما أعطوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم عليه) ثم اجتمعت الصحابة بعد ذلك معه على قتالهم، فاستقر الوجوب.
وهذا كما نقول: إن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب كانا يذهبان إلى إباحة الخمر، وكان عمرو يقول: قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، فقيل له: هذا فيما سلف، فرجع عن ذلك، ولم يحكم بكفره.
فلو أن قائلًا قال في وقتنا: الخمر مباحة.. كان كافرًا.
إذا ثبت هذا: ففي حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فوائد:
أحدها: أنه يدل على وجوب الزكاة.
الثانية: أن للإمام أن يقاتل مانعيها.
الثالثة: أن المناظرة في الأحكام جائزة.
الرابعة: أن مناظرة الإمام جائزة.
الخامسة: أن الاحتجاج بالعموم جائز؛ لأن عمرَ احتج بعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
السادسة: أن تخصيص العموم جائز؛ لأن أبا بكر احتج عليه بالتخصيص، وهو قوله: «إلا بحقها».
السابعة: أن التخصيص بالقياس جائز؛ لقول أبي بكر: (والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة). وهذا اعتبار الزكاة بالصلاة.
الثامنة: أن من ترك الصلاة قوتل.
التاسعة: أن خلاف الواحد للجماعة خلاف؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنكروا على أبي بكر، ولم يكن قولهم حجة عليه.
العاشرة: أن الناس إذا اختلفوا على قولين، ثم رجعوا إلى أحدهما.. صار إجماعًا؛ لأن الصحابة رجعوا إلى قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الحادية عشرة: أن ذلك يدل على شجاعة أبي بكر وعلمه، فإنهم أشاروا عليه بترك قتالهم، وبرد جيش أسامة بن زيد، فقال: (والله، لأقاتلنهم بموالي وأتباعي، ولا أرد جيشًا جهزه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
الاثنتا عشرة: أن الخطاب الوارد في القرآن بخطاب المواجهة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشاركه فيه غيره من الأئمة، وهو قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103].
الثالثة عشرة: أن السخلة يجوز أخذها في الزكاة؛ لقول أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (والله لو منعوني عناقًا)، وأما (العقال): فهو صدقة العام. وقيل: هو الحبل الذي يقرن به البعيران. وقيل: إنه الحبل الذي يشد به مال التجارة. وبالله التوفيق.